تليفون: (+20) 01110005203

يوماً فوق العادة..

كنت طالب في الصف الثاني الابتدائي ، بالفترة المسائية، بمدرسة ابو بكر…
اليوم الإثنين، ١٢ اكتوبر ١٩٩٢م، ينتابني شعور غريب بالانقباض منذ استيقاظي من النوم، ولا أرغب في الذهاب الي مدرستي التى تبدأ في الثانية عشر والنصف ظهراً، تملكني هذا الإحساس بقوة ولا استطيع وصفه سوي بالبكاء الغير مبرر.
“سيد .. سيد، هتتاخر علي المدرسة يا حبيبي” أنه صوت أمي، كنت ابحث عن عذر لاطلب غيابي اليوم، مازال الخوف يسيطر علي دون سبب يحول عن الذهاب للمدرسة اليوم، ماذا أفعل، شئ ما يصلب قدماي في الأرض لا تتحرك.
امي: سيد .. انا مش بنادي عليك، يالا عشان أوصلك المدرسة، ايه ده انت بتبكي ليه.
انا: مش عايز اروح المدرسة النهارده، ارجوكي سبيني في البيت، مش عايز أروح.
امي: يعني ايه مش عايز تروح، ماعندناش حد مش بيروح المدرسة، انت بتتنفض كدا ليه يا حبيبي، فيه أيه.
أنا: مش عارف، من الصبح وحاسس أن فيه حاجة ماسكة قلبي وخايف اروح المدرسة، ارجوكي يا امي مش تسبيني.
أمي: لاء لازم تروح المدرسة، لانك شاطر وعشان لما تكبر تبقي ضابط زي ما انت عايز.
انا: يا ماما أنا مش عايز اروح النهاردة
امي: طيب في حد ضايقك في المدرسة.
انا: لاء
جرس الباب يدق، وقد جاء بعض الجيران لوالدتي، ومازلت منغمرا في البكاء، وحاول الجميع إقناعي بالذهاب للمدرسة، وكنت أصر علي عدم الذهاب اتشبس بأعمدة غرفتي واثاثها ومتعلقاتي وهم يجذبونني ، وأضطر الجميع للذهاب معي في ذلك اليوم لتوصيلي للمدرسة، واقناعي بأنها جميله، وبدأ اليوم الدراسي.
كنت اجلس بالديسك الأول بجوار باب الفصل، ومرت الحصة الأولى والثانية ودار جدال كعادتنا مع زملائي بالمقعد الذي كان يستوعبنا نحن الثلاث، الي انتهت الحصة الثانية.
دخل ا.اشرف، مدرس العلوم، وبدأ في شرح درس اليوم، ثم نظر لي قائلاً ” مالك يا سيد يا حبيبي، مش مركز معايا ليه”، واجابة زميلي عمرو “يا مستر هو من أول اليوم كدا، خايف وماسك فيا، وأمه جابته لحد الفصل وكانت بتقول للميس هي مش عارفه ماله النهارده بيعيط من الصبح ومش عايز يجي”، نظر لي ا.اشرف، وقال..
ا.اشرف: ” يا حبيبي قولي مالك انت صعبان عليه أوي، أول مرة اشوفك كدا”
انا: ” خايف وقلبي بيعمل بم بم بم جامد، وحاسس أني خايف أوي ومش عارف من أيه”
ا.اشرف: ماتخافش مافيش حاجة، ربنا يحفظك.
مرت دقائق وأصبحت أنا وكل طفل معي يهلع من صوت عال واهتزاز صاخب وتحطم وانفجار، وأصوات تحطم النوافذ الزجاجية تعلو، الأرض تهتز تحت أقدامنا بقوة، أصوات صراخ وبكاء، وا.اشرف يصرخ بصوت مرتفع “كل واحد يخليه مكانه، انا عرفت انت خايف من ايه يا صغير، المدرسة بتقع”…
كنا جميعا نخرج مسرعين من الفصل ومفزوعين، ونجري لا نعي معني الكلمة ولكن خوفاً من الأصوات العالية والغبار والأتربة التي تتصاعد….
مرت ثوان وبدأ خفقان قلبي يهدأ ، هول الموقف الذي لا استوعبه ولا يستوعبه زملائي وصل لمرحلة الهلع عند البعض والصراغ، ولكن ا.اشرف أوقفنا في الطرقات وبدأ تنظيمنا سريعاً ويحاول تهدأت روعنا، “ما تخافوش ده صوت ماتور، احنا بنصلح حاجة في المدرسة” كنت أقف بجوار زميلي عمرو متمسكين بأيدينا خوفاً، وكنت كالعادة في مقدمة الطابور…
كنت احاول إدراك ما يحدث، واتسلق سور الطرقة الذي يرتفع عني بـحوالي ١٥ سنتيمتر تقريباً، كنت أطمح أن اري ما يحدث في الشارع حول المدرسة (المهنه في دمي منذ الصغر، حتي في الكوارث)، كانت قوة الاهتزاز قوية جداً لدرجة أنني كنت اقع بداخل الطرقة من شدة اهتزاز السور.
عمرو: سيد انت بتشب كدا ليه علي السور، هتقع.
انا: عايز اعرف بيحصل ايه بره
عمرو: طيب شفت ايه، المدرسة بتقع واحنا هنموت صح..
انا: فيه عفار كتير جدا، والناس بتجري في الشارع، هو فيه ايه؟
عمرو: يا ابني قولت لك ماتخافش، المدرسة بتقع.
وتحرك الطابور الذي نستقله الي سلم النزول، متزاحما بين أجساد اكبر منا حجماً وطولا ووزنا، فروق القوي غير متكافئة بكثير أنهم تلاميذ الصف الخامس، وكأنهم قطيع منتشر، كنت اري زملائي ينزلقون تحت أقدامهم علي درجات السلم، ومن يقع لا نسمع له صوت صريخ….
رأيت دمائنا مبعثرة بين أقدام الكبار، وبكاء البعض يتبعثر بين آذاننا من حين لآخر، وأحذية ملقاء علي حافه السلم ودرجاته، واجسادنا الصغيرة ملقاه علي جنبات السلم غارقة في الدماء، وقد جاء دورنا أن ندخل تلك المفرمة….
حاولت التراجع والمقاومة، ولكن تم دفعي بقوة أكبر مني، جعلت قدمي تعلق بين أحد الأطفال المفترشين علي الأرض ألما، فوقعت، لم أشعر بشئ حينها، سوي أنني اري أمي تأتي بفستانها الجميل لتاخذني، ثم أري ظلام دامس ولا أستطيع التنفس، ثم أعود للحياة فأشعر بقدم عملاقة تقف علي رقبتي فلا استطيع التنفس، فاغيب عن الوعي ثم اعود، فاجدني اتحرك علي درجات سلم تحت الأقدام ورفاقي مثلي يحاولون التشبث بي ولكني لا استطيع الإمساك بهم ولا بنفسي، ثم ياخذني الظلام الدامس من جديد ولا اشعر بألم وأري أناس تحاول محاصرتي، واتخيل أمي تبحث عني وتبكي، ثم يعود النهار بقطرات من النور بعيده، ولكن هذه المرة كانت حقيقة، أحد أستاذتي يحاول إنقاذي فألقي بنفسه خلفي، اري درجات السلم وهي تجري من تحتي بقوة، تصدم بجسدي، ثم رأسي وأشعر بسائل ساخن يسكب فوق عيني، وإذ تصدم جبهتي بقوة في أحد جنابات السلم، ولكن دراجات السلم لا تتوقف عن الحركة، وأستاذي يحدثني ” حاول توقف نفسك وتقوم تقف، انت بقالك ثلاث ادور بتدحرج علي السلم”، ولكني أحاول فاصطدم فاقع فيسيل دمي ثانيتا، إلي أن وصلت إلي الدور الأرضي….
خطفني أستاذي مسرعاً، يصرخ ” إسعاف بسرعة الولد بيموت، بسرعة” وضعني في غرفة ناظر المدرسة وذهب لإنقاذ باقي زملائي، الذين لم يعرفوا قدرهم المنتظر واتو الي المدرسة في ذلك اليوم…
فتحت عيني، أحاول رؤية ما حولي واتفقد المكان، الألم يعتصرني، لا استطيع الرؤية بوضوح، اجد كل شئ وكأنه مزدوج حتي باب الغرفة، حتي حدثني صوت اعرفة…
سيد.. انت بتعمل إيه هنا في اوضة الناظر، وايه عمل فيك كدا، فين مامتك.. باباك لو عرف هيهدلهم المدرسة..
كنت ابكي بشده وحدي، وانا ملقي علي اريكة، ثيابي ممزقة ومتسخة وبها آثار دماء، أشعر بألم شديد في رأسي وعيني وقدمي وظهري وبطني، ودوار يجعلني لا استطيع ان اسلك طريقي للحركة، فاصطدم بالأرض.
سيد.. هات ايديك اخرجك من هنا، ليكون الناظر عايز يعاقبك، يالا…
أخرج معه، واسمع صوت من بعيد يقول، “يعني ايه مافيش إسعاف، العيال بتموت وغرقانه في دمها، ألحقوا الأرواح الطاهرة، عندنا حالة خطيرة في اوضة الناظر، وأهله مش هيعدوها”.. كان الصوت يبتعد شئ فشئ، وعند خروجي الي فناء المدرسة اري الناظر يأمر عم وهبه البواب، “افتح ابواب المدرسة كلها، خليهم يخرجوا للشارع بسرعة وأهلهم تلحقهم”، وبالفعل وجدت نفسي أمشي خارج المدرسة بين شوارع خاويه من الماره.
حالة من السكون والصمت تسود الشوارع، وغبار منتشر يكاد يحجب الرؤية، لا أشعر بألمي قدر ما ابحث عن طريق بيتي لارتمي بين احضان أبي وأمي، اني ابحث عن الأمان…
امشي في الشارع باكياً، وإذ تأتي سيدة مسرعة نحوي خرجت من منزلها الشبيه بالفيلا القريب من المدرسة، كنت ارتدي فرده واحده من حذائي، وثيابي بها اثار تراب ودماء وقد تمزق بعضها، اضع يدي علي عيني أحاول تنظيفها كي اري طريقي، والخوف والألم يسيطر علي، وإذ جاءت تلك السيدة تسألني… “ايه اللي حصل يا حبيبي”، اجابتها “المدرسة وقعت علينا يا طنط، وانا عايز ماما وبابا”، ولا اري سوي صراخها في وجهي قائله ” يا خسارة السبعة جنية اللي دفعتهم مجموعة للبنت”، وتركتني وعادت الي منزلها، دون أن تحاول اسعافي أو إنقاذي…
اخذت طريقي اترنح بصعوبة ناحية منزلي، لم اصادف أحد في الشارع وكأن الناس اختفت من الوجود، اري دمائي وآثار قدمي خلفي وأشعر بثقل جسدي شئ فشئ، وارفع عيني الي الطريق فأجد رجلاً خطأه تشبه خطي أبي علي بعد ٣٠ متراً، فرفعت له يدي، ثم وقعت علي الارض فاقداً للوعي….
سيد.. سيد، اسمع صوت امي تبكي وتقول”انا السبب انا اللي وديتك المدرسة بالعافية يا أبني، كان بيعيط ويقولي مش عايز اروح، انا اللي موتك يا ضنايا”، ثم أفقد وعي ثانيتا….
افتح عيني أجدني محمولا بين يدي ابي ثم امي ثم أبناء الجيران ثم اختي وملابسهم تلطخت بدمائي، ثم اجدني بين أجهزة إشاعة تمر فوقي من كل إتجاه، واسمع أبي يقول “مافيش أماكن في المستشفيات، الناس علي السلالم ومفترشة الطرقات”، أحاول الاستفاقة فأجد حولي أمي تبكي وأختي وجيراننا وكل من في الغرفه بعض من الأقارب وجيران، وأنا علي سرير وبجانبي أطباء تتابع حالتي.
اسمع أحد الأطباء يقول” جسمه كله كدمات، ربنا نجاه بس هو بيتالم جداً، سبوه نايم”، أحاول فتح عيني وأنجح….
سيد.. سيد..، انت شايفني؟
أنا: أيوه….
الطبيب: انت حاسس بأية
أنا: بطني يوجعني أوي، ودماغي، وعيني، ورجلي.
الطيب: تعرف تمسك أيدي
انا: أيدي بتوجعني اوي، مش عارف احركها..
الطبيب: معلش بلاش تبكي كدا، احنا بنلعب مع بعض يا حبيبي.
انا: رجلي بتوجعني أوي.
الطبيب: انا بحرك رجلك براحة، حاول توقف أيدي.
انا: فين مش حاسس بيها.
الطبيب: انا شايفني كويس
انا: لاء، حاسس ان فيه حاجة علي عيني.
بابا: الولد ماله يا دكتور
الطبيب: بياض عينه مختفي من النزيف، وجسمه كله كدمات، لكن الحمد لله مافيش كسور.
أفقد الوعي مره أخري، ثم استفيق علي حوار بجواري مع أمي.
امي: كان بيعيط من الصبح، مش عايز يروح المدرسة، وانا اللي وديته بالعافية لحد الفصل.
جارتنا: قلب الملاك ده كان حاسس، هو اللي كان بيعيط الصبح.
امي: أيوة، وبعد ما دخل الفصل، روحت ع البيت احضر الغداء لباباه واخته، وفجأة لاقينا الدنيا بتتكركب أبوه خدنا في أيدي وطلعنا نجري علي الشارع، ونسينا الولد في المدرسة، حتي نسينا بتاع البوتجاز في البيت، ومن كتر الفزع نسينا دهبنا وكل حاجتنا مفتوحة.
جارتنا: هو فيه حد كان دريان بحاجة، ربنا يصبر قلبك احكي احكي وانسي البكاء شوية.
امي: بعد ما نزلنا الشارع لاقينا الناس كلها معانا، وكل واحد كان فاكر أن بيته بيقع، وبعد ربع ساعة لاقيت بتاع البوتجاز نازل وشايل الأنبوبة، وبنساله انت كل ده كنت فوق، قال رجلي ما مقدرتش تشلني انزل من الخضه، اتشاهدت وقعدت مكاني.
جارتنا: طب والولد المسكين ده.
امي: بعد شوية لاقينا ولد صغير جي بيقول المدرسة وقعت علي العيال، صرخت أبني وجريت من شارع، وكل واحد من الجيران من شارع، لا لاقين عربيات ولا اي حاجة بنجري كلنا ونسابق الزمن.
جارتنا: ياه، ومين اللي جابه.
امي: ابوه، لاقي ولد صغير، واقع علي وشه في الأرض..، هو يكملك بقي.
أمي وضعت رأسها بجواري تبكي، وأشعر بيدها علي جبهتي ورأسي، ثم ترفع يدها وتقول دم، والدكتور يقول لها ماتخفيش يا فندم دي جروح بسيط.
جارتنا: انت لاقيته فين يا عبد العزيز.
بابا: انا بجري مخضوض علي الولد، وببص لاقيت عيل صغير بيشاور لي، وراح واقع متدحرج علي الارض علي وشه، هدومه كلها متبهدله دم وطينه ووشه معفر.
جارتنا: لا حول ولا قوه الا بالله، يا حبيبي يا أبني.
بابا: جريت ناحيته بسرعة أشوف أهله ولا ابن مين ده، وبمسح التراب اللي علي وشه لاقيته أبني، شيلته علي كتفي وجريت ناحية المدرسة اجيب أمه واخته والجيران، ما احنا كنا متفقين نتقابل هناك، بس كل واحد يمشي من طريق.
جارتنا: يا قلب أمك، ده انكتب له عمر جديد.
بابا: المستشفيات كلها مليانه، والحالات صعبه جدا، فجبته وجيت علي هنا يبقي تحت عنينا بعلاجه والدكتور راجل عسكري عارف هيعمل ايه.
جارتنا: ربنا يقومه بالسلامة، والله دا احنا كلنا موجودين معاكوا ومش هنمشي من هنا الا لما يرجع بيته، ونطمن عليه وسطنا، كل الشارع قاعد تحت المستشفي وخاله كان بيقول عمامه علي وصول، واحنا وكلنا والدكاترة معاكوا لما يطمنوا عليه…..
تغطية حية اكتوبر ١٩٩٢ (فيديو)
//انتهي ١٢ اكتوبر ١٩٩٢//

الاقسام مذكراتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.